اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به)    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر.
مسألة محيرة
9439 مشاهدة
أهل السنة

القسم الثالث: أهل السنة والجماعة: إن عقيدة أهل السنة أن الله تعالى أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم أو جعل لهم اختيارا يفضلون به بعض الأعمال على بعض؛ فلذلك تنسب إليهم أعمالهم، وتضاف إليهم أفعالهم، ولو كانت بقضاء الله وبقدره وبمشيئته، فإنه -سبحانه- لا يعصى قسرا، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولكن له الحجة البالغة.
والله -سبحانه وتعالى- يذكر دائما احتجـاج المشركين بالقدر، ثم يـرد عليهم، وينكر عليهم، مثل قولـه تعالـى: سَيقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ - هذا احتجاج من المشركين بعموم مشيئة الله – إلى قوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ فأخبر بأن له الحجة، ولو شاء لهداهم.
ويقول تعالى في آية أخرى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ فهو -سبحانه وتعالى- لو شاء لهداهم، ولكن اقتضت حكمته أن يكون في هذا الخلق سعيد وشقي، وفاجر وتقي، وكافر ومسلم، ومشرك وموحد، وعابد وغير عابد، اقتضت ذلك حكمة الله -سبحانه وتعالى- واقتضى أمره وحكمته أن جعل الناس قسمين: قسم خلقهم للجنة فبعملها يعملون، وقسم خلقهم للنار فبعملها يعملون.
ومكن كلا منهم، وأعطاهم إرادة، وأعطاهم قدرة يزاولون بها أعمالهم، وتلك القدرة وتلك الإرادة هي التي يثابون أو يعاقبون عليها.
ومع ذلك فإنهم كلهم تحت مشيئة الله، ولهم مشيئتهم، ولكنها مرتبطة بمشيئة الله، يقول الله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ يعني أن لكم مشيئة على الاستقامة، ومع ذلك فإن مشيئتكم مرتبطة بمشيئة الله.
وقال تعالى: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ .

وقال تعالى: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ .
فالله أثبت للعباد مشيئة، ولكنها مغلوبة بمشيئة الله -سبحانه وتعالى- وله الحكمة في ذلك، وبمشيئة هؤلاء العباد الذين مكنهم وأعطاهم إياها، يثابون ويعاقبون عليها.
فعلى كل حال نقول لهؤلاء الذين يقولون: (سبق الكتاب)، (وكتب الكتاب) ونحو ذلك.
نقول لهم: قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة فقال رجل من القوم: ألا نتكل؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى .

فقد أثبت الله تعالى في هذه الآية أن للإنسان عملا فقال: أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ وهذه كلها أعمال، ثم قال: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى أي إذا عمل صالحا كالتقوى والصدق ونحوها فإنا سنيسره لليسرى.
ثم قال: بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ وهذه أيضا أعمال، قال: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى أي إذا عمل أعمالا غير صالحة، كالبخل والكذب ونحوها، فإنا سنيسره للعسرى.
فالإنسان إذن له عمل، وعمله هو أنه يؤمر فيأتمر ويمتثل، ويكون ذلك بمشيئة الله، فلو شاء الله تعالى لم يستطع، ولو شاء الله لرده، ولحال بينه وبين ذلك، لكنه شاء، وله مشيئته التامة، فخلى بينه وبين هذا الاختيار، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وتوعدهم على ذلك:
فتوعدهم على الشر بأنه يعاقبهم عليه، وإن كان الله قادرا على هدايتهم.
ووعدهم على الخير بأنه يثيبهم عليه، وإن كان الله قادرا على إضلالهم.
وله الحكمة البالغة بأن خلق هؤلاء للجنة وهداهم، وأقبل بقلوبهم، فله المنة عليهم، فلا ينعمهم إلا بفضله. وخلق هؤلاء للنار، ويعذبهم بها، وإن كان قادرا على أن يهديهم، ولكنه حال بينهم وبين ذلك، ولم يوفقهم لأسباب الهداية، وجعل لهم الاختيار في أن فضلوا الشر على الخير، فإن عملوا بالشر وصاروا من أهله، عاقبهم ربهم، وعقوبتهم تكون عدلا منه وليس ظلما: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا .
وبالجملة فإن الكلام في هذا يطول، ومن أراد أن يتوسع في ذلك فليراجع رسالة شيخ الإسلام، وغيرها من الرسائل، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

خاتمة
وبعد هذا الجواب المفصل المقنع إن شاء الله فإننا نذكر مثالين - واقعين لكثير من الناس في القضاء والقدر - ، وقد ذكرهما فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في كتابة: الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية ، فقال